هل اختفى المقهى من الخريطة الثقافية المصرية؟

المقهى، رقعة مسحورة يُغلفها الصخب والهدوء أيضا، ويعزلها عن العالم الخارجي لمم ووشوائج روادها بتنوعهم، وبوصفها عالم قابل للتشكل المستمر تحمل لذلك صفات التطور الاجتماعي، وتعتبر قطعة جغرافية معبرة عن طفراته.
ظاهرة تتحرك في اتجاه المستقبل بالتوازي مع مسيرة البشر، ولكن المتعة في النقاش والحديث عن المقهى المصري - ذلك العالم الغامض- يبدأ بهذا الاستطلاع الذي أجرته "الديار" وشمل لفيف من الكتاب المصريين، كشف حديثهم عن جانب من تاريخ مصر الثقافي والفكري
بداية يقول الروائي محمد جبريل: أول علاقتي بالمقهي حين كانت تتناهى إلى سمعي في شقتنا من فونوغراف قهوة "فاروق" القريبة تسجيل أغنيتي محمد عبد الوهاب كايوباترة والجندول، لم تتبدلا طيلة بداية تيقظ وعيي في الليالي الأخيرة من سنوات الحرب العالمية الثانية، كنت أطلب من أبي أن يأذن لي بالنزول إلى المخبأ القريب، فرارًا من غارات الألمان، لكن أبي كان يقصر إذنه بالنزول إلى أمي وشقيقتي الكبرى، فالرجال – يقصد طفولتي! – لا يخافون، وكنت أجد الونس في أغنيتي عبد الوهاب، أستعيد – حتى الآن - تلك الليالي البعيدة إن استمعت إلى مقاطع من الأغنيتين ومع أن أبي كان من رواد قهوة فاروق – ولها في الإسكندرية شهرة يقدرها أبناء المدينة، وزائريها – فإني لست من رواد المقاهي، ربما جلست إلى من جعل المقهى موضعًا ثابتًا في حياته، مثلما كنت أحرص في لقاءاتي أستاذنا نجيب محفوظ بكازينو أوبرا وقهوة عرابي وقهوة ريش، وربما جاء اختياري المقهى لظروف عمل، أو سفر، لكن تحول المقهى إلى بيت مواز لبيت السكن مما لا أتصوره، أفضل الحياة في بيتي، أقرأ وأتأمل وأكتب
يضيف جبريل: ظني أن كتابي " نجيب محفوظ صداقة جيلين" هو – في معظمه - ثمرة لقاءاتي شيخنا في المقاهي التي كانت بديلًا عن لقاءات البيت، وأذكر أني كتبت فصولًا من كتابي "حكايات عن جزيرة فاروس" في أوقات انتظارى موعدًا، ربما سبقت بزمن، خشية صعوبة المواصلات في زحام القاهرة، ولم أكن من رواد المقاهي بصورة حقيقة، فأزعم أني انقطعت عن الجلوس فيها، مع ذلك فإن المقهي بعد لافت في كتاباتي القصصية والروائية، بالإضافة إلى كتابيّ"مصر في قصص كتابها المعاصرين"، و"مصر المكان"، لذلك أرفض فكرة الجلوس على المقاهي، تحفظي المعلن عندما تتحول إلى مجالس ثرثرة سخيفة، ووشاية، ونميمة أتساءل لماذا يضيعون الوقت في ما لا يفيد؟، أو يسيء – بلا سبب حقيقي - إلى الآخرين؟
يؤكد جبريل أن المقاهي كانت – في أوقات سابقة – بديلًا فرضته عزلة لحياة الشخصية والأسرية داخل البيوت، الاستثناءات التي لم تتكرر – للأسف – حين كان الأفغاني يجلس على مقهى "متاتيا" إلى تلاميذه من كبار مثقفي العصر، يوزع السعوط –على حد تعبير كامل الشناوي– بيمناه، ويوزع الثورة بيسراه، ثم تحول العديد من المقاهي - فيما بعد– إلى ملتقيات ثقافية مهمة، ثم تحولها – بعكس المرجو منها– إلى كيانات، أترك لكم تسميتها!
التاريخ يجلس على المقهى
ويقول الدكتور يسري عبد الغني: إن المقاهي في مصر قرينة الأهرامات، وتاريخها الثقافي والفكري لم يكتب بعد كتابة علمية حقيقية، ولو كتبنا هذا التاريخ الثقافي سنكتشف دررا ثقافية وفكرية كم نحن في حاجة إليها هذه الأيام من أجل تصحيح تاريخنا الثقافي، المقهى لم يعد جاذبًا لأهل الكلمة وذلك لتغير الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وفي نفس الوقت تغير نوعية الذين يجلسون على هذه المقاهي، صاحب المقهى نفسه قديمًا كان يشجع الحوارات والنقاشات الفكرية بل يشارك في بعضها قدر إمكانه، بل كان يدافع عنا ضد أي غارة أمنية ويتساهل كل التساهل مع أهل الكلمة في دفع المشاريب وخلافه، وهو سعيد كل السعادة أن فلان وفلان من رواد مقهاه.
ويضيف عبد الغني: إن الحوارات التي كانت تضيء المقاهي كان لها جمهورها من كافة الفئات والطبقات، حيث كان يسمح لهم بالنقاش والسؤال لتعم الفائدة على الجميع أما الآن فمن الذي يجلس على المقهى للمناقشة؟!
واستطرد قائلا، لقد جلست على العديد من المقاهي في الأحياء الشعبية وبالذات حي السيدة زينب الذي ولدت ونشأت فيه وألتقيت بيرم التونسي على إحدى مقاهيه، أضف إلى ذلك مقهى ريش والبستان وعلي بابا وغيرها في وسط القاهرة أو ميدان العباسية أو في ميدان الجيزة، وكم من أدباء ومفكرين وصحفيين وفنانيين من كافة ألوان الطيف جلسنا إليهم وتعلمنا منهم الكثير والكثير، وكم من مناقشات خضناها خوضًا وسبب لنا بعضها المتاعب الكثيرة.. كانت أيام، وعلى المقهى أيضا نقرأ المجلة أو الصحيفة أو نسمع أحدنا وهو يلقي قصيدة أو قصة قصيرة، أما القراءة لكتاب معين أو كتابة مقالة أو بحث أو دراسة فلها طقوس خاصة لا يصلح لها المقهى ، الذي هو ساحة مفتوحة للحوار يشارك فيه كل الأطياف .
أذكر أننا دخلنا في نقاشات عديدة منها: قضية الإلتزام، والإشتراكية، و كتابة التاريخ، ومشاكل التعليم، والشعر الحر، وحرية الصحافة وغيرها، كنا نختلف لدرجة الإحتداد ولكن نعود أحباء وأصدقاء، فالخلاف في الفكر لا يفسد للود قضية
لا أنسى مقهى الفيشاوي في مصر الذي تأسس في العام 1797 صاحب الدور الكبير في الحركة الأدبية والثقافية من خلال كبار رواده يتقدمهم الأديب نجيب محفوظ الذي كتب معظم أعماله في هذا المقهى، لقد سبق محفوظ إليه جمال الدين الأفغاني والإمام محمد عبده في زمن كانت العمامة تدخل المقهى ولم يكن المقهى منكراً.
وأيضاً الرئيس جمال عبد الناصر وقبله، الملك فاروق الذي أهدى المقهى مراياته الشهيرة، بالإضافة إلى الفنانين عبد الحليم حافظ ومحمد فوزي وليلى مراد ومحمد الكحلاوي وعبد المطلب والشعراء كامل الشناوي، ونضيف إلى ذلك عملاق الفكر عباس محمود العقاد والممثل نجيب الريحاني ومفكّرون سياسيون عرب وأجانب أبرزهم المفكر الفرنسي جان بول سارتر وصديقته سيمون دي بوافور.
وأحب أن أضيف هنا أنه ليس مقهى الحرافيش أقل منه شأناً الذي اقتبس اسمه من أشهر رواية لنجيب محفوظ، كما هو معروف، حتى أن أصحابه زينوا مدخله بتمثال لمحفوظ، وأقاموا ركناً للكاتب الساخر محمود السعدني، وآخر لشاعر العامية بيرم التونسي ومكتبة تضم كتبه، ولا تنسى بالطبع مقهى قشتمر، ولا مبالغة بالقول بأن المقاهي كانت في مصر تعتبر معالما سياحية يقصدها السياح أسوة بالأهرامات أعجوبة العصر بفضل روادها من رجال الثقافة والفن بعصوره الذهبية، مصر أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وعبد المطلب، واللائحة تطول
بكل أسف لقد انقطعت الآن عن الجلوس على المقاهي، في بعض الأحيان تضطرني الظروف وبحكم متابعة بعض أعمالي الخاصة إلى الجلوس على مقهى في باب اللوق أو السيدة زينب ولكن لا أستطيع تحمل ساعة على الأكثر، صخب وضجيج وأصوات مرتفعة وألفاظ بذيئة وشباب منفلت ، رحم الله الأيام الخوالي، عندما كان المقهى مدرسة حقيقية نتعلم منها الثقافة والفكر ورقي الحوار .
المناخ العام جعل للمقهى دورا مغايرا تمامًا كملتقى ثقافي وفكري، الناس بوجه عام أصبحت لا تهتم بالثقافة، تهتم بكرة القدم وبأخبار الفنانيين وبلقمة العيش التي تطحننا جميعًا، والمؤسسات الثقافة تخلت عن دورها تمامًا مكتفية بالشو الإعلامي الذي يجعلها في الصورة، المنظومة كلها وعلى رأسها التعليم والثقافة في حاجة ماسة إلى إعادة النظر إذا أردنا نهوضًا حقيقيًا وتنمية مستدامة تؤتي ثمارها
يفترض أن لدينا ما يسمى بقصور الثقافة وأندية الأدب لها دورها في إثراء وترقية حياتنا الثقافية، ويفترض أنها حاضنة لشبابنا ولكل صاحب كلمة وفكر، ولكن بكل أسف الواقع مرير، وإذا أردنا خيرًا يجب أن نطور هذه الكيانات تطويرًا حقيقيًا وفق إستراتيجية حقيقية شكلاً ومضمونًا بعيدًا عن تحويلها إلى عزب خاصة تحكمها المصالح والمحسوبية والإدعائية، ولا تنس منظمات المجتمع المدني التي يجب أن يكون لها دورها الكبيركملتقيات للحوار المجتمعي والنقاش الجاد الذي يعود بالفائدة على المجتمع ككل، يا ليتنا نعرف جيدًا دور هذه المنظمات في الخارج وكيف تقوم بدورها الفعال للصالح العام
جماعة نصوص 90
يقول الكاتب سيد الوكيل: هناك أسباب عديدة جعلت المثقفين يهجرون المقاهي، منها انتشار المراكز الثقافية الخاصة، فقدرتها على احتواء المثقفين أكثر فاعلية، نتيجة لتأهليها بإمكانات واحتياجات المثقفين التي تناسب العصر من تكنولوجيا، وكتب، والأجهزة الصوتية لزوم الندوات، وفي نفس الوقت تقدم المشاريب المطلوبة لروادها، ولاحظ أن بعض دور النشر الجديدة تضع في اعتبارها هذا منذ البداية، والطريف أن بعض الكافتيريات تخصص ركنا للفاعليات والتجمعات الثقافية، بما يخدم فئة نخبوية من المثقفين، أما المثقف الشعبوي فيبدو أنه في طريقه إلى الاختفاء وفي أفضل الأحوال هو يكتفي بمواقع التواصل الاجتماعي والجروبات وغرف الشات.
ويضيف، وبالنسبة لجيلي، كانت المقهي مكانا مناسبا للقاءات الثقافية، وكانت مقهى فينكس بشارع عماد الدين مكانا رحبا استوعب التجمعات، وهناك بدأ فكرة تكوين جماعة نصوص 90 الأدبية التي طبعت من خلالها عملى الأول ( أيام هند ) ولأن حركة النشر في هذا الوقت كانت بطيئة جدا، اتفقنا على أن ننشر كتبنا بالمجمود الذاتي، فكنا نجمع من كل واحد ( 50 جنيه) ندفعها كل شهر، ومع الوقت نتمكن من طبع كتاب، وقد طبعنا 18 كتابا على مدى 3 سنوات، وجدير بالذكر أن الجماعة ضمت مجموعة من المثقفين الذين تركوا أثرا كبيرا في الحياة الثقافية، منهم الدكتور مصطفى الضبع، وسيد نجم، ومجدي توفيق ورمضان بسطاويسي والكاتب الكبير أمين ريان، وبفضل هؤلاء تمكنت الجماعة من نحت مسارات واتجاهات جديدة في السرد بالتحديد فضلا عن الدرسات النقدية والثقافية التي شاركنا في صنعها.
واستطرد، أنا من مواليد شبرا، ولدت وتربيت في شوارعها وعلى مقاهيها، فطبيعي أن علاقتي بالمقاهي قوية، وفيها رأيت نماذج من البشر أثرت في كتاباتي، أذكر صديقي عبد الله سنجر الذي استشهد في مطار "لارناكا" بقبرص إثر مقتل الأديب يوسف السباعي على يد مناضل فلسطيني كان عبد الله أحد رجال الكوماندوز في الجيش المصري، بوحي هذه الواقعة كتبت قصة "جراح رمضان الأخير" عن واحد من أبطال حرب أكتوبر، أما روايتي "فوق الحياة قليلا" فقد اختصت بفصل كامل بعنوان مقهى المثقفين، وفيها نماذج لشخصيات معروفة من المثقفين منهم محمد مستجاب وإبراهيم فهمي وسيد عبد الخالق، وامتدت الرواية تناول المقهى الثقافي بمعرض الكتاب، ولقاء نجيب محفوظ مع كلود سيمون
المقهى ذاكرة الوطن
يقول الكاتب كامل رحومة: إن المقهى ساهمت في تكويني السياسي، وتنمية ملكة التأريخ والرصد عندي، فأنا كنت أسكن في وسط البلد بمدينة دمنهور حول محيط ميدان الساعة الذي يحوي أوبرا دمنهور، والذي شهدت مقاهيه ومقاهي شوارعه المتقاطعة كل الأحداث السياسية الكبرى في المدينة، ابتداءا من كل الحملات الإنتخابية منذ السبعينيات من القرن الماضي بالنسبة لي، وانتهاءا إلى ثورتي 25 يناير و30 يونيه اللتين كانتا لمقاهي وسط البلد فيهما دورا كبيرا، وأخص بالذكر مقهى البنا ومقهى سلطانة ومقهى الزواوي، وكان مقهى البنا ملتقى المثقفين والفنانين والمبدعين من أولاد البلد، وقد تم إزالتهم جميعا الآن، نتيجة الزحف المعماري العشوائي الجديد.
يضيف رحومة: أنا ابن المقاهي، تعلمت فيها القراءة بمروري على والدي الذي يلتهم كل يوم الجرائد والمجلات والدوريات والإبداعات كل يوم صباحا أمر عليه لأخذ المصروف قبل الإنضمام لليوم الدراسي صباحا، ابتدائي وإعدادي، وثانوي، كل يوم أعايش القراءة ونهم أبي فيها وتتيمه بها.
ثم أنني أنتمي ثقافيا إلى منتديات ثقافية تقام على المقاهي، ففي أهم ميادين المدينة بنكهة شعبية "ميدان جلال قريطم" بدوران الإستاد، كان هناك منتديات كثيرة منها منتدى مقهى الرشيدي ويضم رموزا مصرية كبيرة مثل الأديب والمترجم والناقد الكبير "السيد إمام" وشاعر مصر الكبير "صلاح اللقاني" والسياسي والمترجم "زهدي الشامي"، ومنتدي مقهى الماسة، من رواده الشاعر الكبير كمال عبد الرحمن وآخرين مثل راهب الأدب الأديب الكبير "رضا إمام"، ولي مقال هام على هذين المقهيين بكتابي "ولا واحد دمنهوري.. فلكلور وحكاوي في حب الوطن" الصادر عن الهيئة العامة للكتاب، والمقال بعنوان "الحركة الثقافية الشعبية في دمنهور، حقيقة أم خيال".
واستطرد، كتب كثيرة يصعب عليَ حصرها كانت مثار نقاش مع مؤلفيها على المقهى، ولكن لي شخصيا، كان كتابي "المقاهي الثقافية في العلم.. القاهرة- باريس- دمنهور" هو أحد أهم انتاجات تلك النقاشات والندوات
ويضيف: ثم انقطعت عن المقاهي لأسباب شخصية، وإليها دوما ما زلت أشتاق، ولكن هناك أيضا عوامل طاردة للجلوس عليها منها الإستقطاب والخلافات الأيديولوجية الدخيلة التي يكرس لها من دوائر الإستبداد السياسي والديني، ولكل منهما ممثليه وأدواته، ناهيك عن المنافسات بين الأقران التي يطورها البعض لصراعات، ناهيك عن أجواء كورونا وما أدراك ما كورونا وما خلفته ورسخته.
والبدائل الحداثية كالكافيهات ومقاهي الإنترنت، إنما تؤصل للفردانية والاستهلاكية وقيم السوق، فلا بديل للمقاهي التقليدية عندي حتى الآن فذاكرة الوطن تكمن دوما في ذكريات المقاهي.