جريدة الديار
الجمعة 4 يوليو 2025 09:35 مـ 9 محرّم 1447 هـ
بوابة الديار الإليكترونية | جريدة الديار
رئيس مجلس الإدارة أحمد عامررئيس التحريرسيد الضبع

بدوي الدقادوسي يكتب: مستجير من الرمضاء بالنار

ضحكة واسعة تكشف عن أسنان هزمها الزمن إلا واحدة تقف في المنتصف كعمود صدئ في طريق مهجور ، رائحة الكفتة تهيج الرغبة وهو يتفنن في ازكاء النار والدخان برش الشحوم على الفحم ، الغلة اليوم ستكون وفيرة ستسدد ديون شهور الركود  التي استدان فيها لمحل اللحوم المجمدة والمخبز وبائع السجائر و.... و... و.. .
تدفق صُيّع الشارع حول لجنة الانتخابات وساقطات الحي ّ، يعرفهم جميعا وقفته على الرصيف أمام عربة الكفتة جعلته يحفظ عورات البيوت ،يسترها حين يسترضيه أهلها ويكشفها حين يهملونه ، وقفة الشارع مُعلّم ماهر يجعلك قادرا على التعامل مع التفاصيل ببراعة ، يمنحك عاطفة اللحظة المؤقتة ، كيف تضحك إن كان الزبون يشتري الطعام لمناسبة سعيدة وكيف تبكي إن كان يشتريه لمناسبة حزينة ، يمارس حزنه بشهية ، يرقص على حافة دمعة .
همس بأذني وهو ينظر للشارع المكدس بسيارات الشرطة : هل تعلم يا أستاذ أن المسافة بين بلدنا والتقدم ألاف الأميال من شرطة وجيش وإعلام ؟ انظر لأقواس شفاه المارة لترى بعثرات خرساء على فم منهك ومتعب وألسن محشوة بالقطن من كثرة اعتيادها البوح للوسائد والليل ورماد السجائر ، وتلك المرأة  التي ترقص أمام اللجنة كذبيح يرقص من الألم تخط الكحل بسواد الظلم ، نظرت نحوه بدهشة فهم مغزاها فأخرج على الفور من تحت كيس الخبز كتاب " الحب في زمن الكوليرا " فازدادت دهشتي ، رائع يا معلم عبودة وهل استوعبته؟
عيب عليك يا أستاذ ، محسوبك  بتاع كله ، أخرج قصاصة  من جيبه وقد دون بقلم رصاص " حين تتعرى الأشجار من أوراقها لا يعني هذا أنها أنثى فاجرة ، بل راهبة في قداس ، تنتظر الربيع لتظلل بقشيبها كل عابر " 
يبقر الرغيف ، يحشوه بأصبعين كفتة ، يناوله زوجته ، ترشه بقطع صغيرة من الشبت والبقدونس ، يحمل الأرغفة ، يوزعها على الذين كلفهم الأمن بالتواجد حول اللجنة ، يحفظون أدوارهم كممثلين بارعين ، يعود مسرعا ليكمل : ويأتي الربيع ، ترقص الأوراق على نغمات النسيم ، يستحي الحزن يتوارى قبل أن يقتله بريق نواجذ الابتسام " 
لم ينتظر إطرائي ، انطلق مرحبا بمأمور القسم ، شق الصفوف كجرذ ، وقف أمامه كقرد ، تسمر مكانه حين شعر بيد ثقيلة على كتفه ، استبدل رعشة شفتيه ببسمة ، صاح وهو يرفع يده بالتحية : أوامرك يا باشا .
- عايز سندوتشات لكل الناس ، الناس لازم تاكل وترقص وتتبسط .
- أوامرك ياباشا .
ألقى بمزيد من الفحم لتصير جمرا يغطي سحب دخانه الشارع ، يحرك منشته بسرعة فيزداد الجمر تأججا يلقي بأصابع الكفتة كثرة الشغت قليلة اللحم الملونة " باللعلة " يغني طربا " يا سبية الشوق لايليق بك إلا عبد الألم ، فكلانا أنجبته ليالٍ يتيمة " يلتفت نحوي منتشيا : أتعرف أن أصدق العبارات كذبا تلك التي نقولها تحت تخدير الحماس كقول المحب لحبيبته " لن يفرقنا سوى الموت وهتافات الجماهير في المظاهرات .
أومأت برأسي معلنا الموافقة والإعجاب .
- معلم عبودة 
- عيوني يا أستاذ 
- لا أظن أنك هتفضى نلعب طاولة الليلة ، عن اذنك ، همشي .
- أمسك بكمي بعنف محاولا إعادتي للجلوس ، قفز صوب المقهى المقابل لفرشته ، عاد يقضم أظافره كعادته حين يكون أمام أكثر من أمر وعاجز عن اتخاذ قرار ، أقسم أن المعلم إيهاب صاحب محل اللحوم المستوردة الذي يتعامل معه لو أكلت الكلاب جثته لتسممتْ ، شق بطن الرغيف وألقى بجوفه أصابع الكفتة وضعت الزوجة الشبت والبقدونس  ليطير صوب الباشا وهو يهتف  " الجيش والشعب إيد واااحدة ".
نهضتُ فور انتهائي من قهوتي وأنا أقسم له أني سأعود ، تَمَشّيتُ أتأمل كل شيء ، كأنه ليس شارعي الذي تفتحت عيني عليه ، وجوه غير الوجوه ، لغة غير اللغة ، عدتُ لأجد المعلم عبودة يلملم  الفرش ويصب الماء على الجمر ، قال سعيدا : جبرتْ يا أستاذ كدا الحمد لله مَرضِّة أوي ، أخذ يُقَبِل يده ظهرا لبطن ،انطلق صوب الباشا : " سا الخير يا أعظم باشا في الدنيا .
- عايز إيه يازفت، خلّص مش فاضيلك .
- الحساب ياباشا 
- نزع الباشا نظارته ، استدار بكل ضخامته  نحو النحيل صاح بغضب : أنت اتجننتْ؟ والله أرميك في الحبس والدبان الأزرق ما يعرف لك طريق.