جريدة الديار
الخميس 18 أبريل 2024 10:28 مـ 9 شوال 1445 هـ
بوابة الديار الإليكترونية | جريدة الديار
رئيس مجلس الإدارة أحمد عامررئيس التحريرسيد الضبع
كمامات بـ4 ملايين جنيه.. إحالة 3 مسؤولين بمستشفى الشيخ زايد المركزي للمحاكمة تعطل عمليات السحب والإيداع بماكينات البريد خلال ساعات مركز خدمة المجتمع وتنمية البيئة بجامعة دمنهور يعقد فعاليات اليوم الأول لدورة التحاليل الطبية خبير اقتصادي: مؤشرات البورصة المصرية حققت أداءا جيدا الفترة الحالية تكليف سمير البلكيمى وكيلا لمديرية التموين بالبحيرة مدبولي ..الاسعار ستأخذ مسارا نزوليا بدأ من الاحد القادم التوعية بخطورة الهجرة غير الشرعية والإتجار بالبشر خلال القافلة التنموية لجامعة دمنهور جامعة دمنهور تطلق مشروع لانتاج نواقل خلوية نانوية الحجم من النباتات العضوية (FarmEVs) جامعة دمنهور تحتفل بيــــــوم التراث العالمي استكمال رصف فرعيات شارع الجمهورية بحوش عيسى بتكلفة إجمالية 4 مليون و 500 ألف جنية وزارة الصحة بالشرقية يتابع الخدمات الطبية بمستشفى الزقازيق العام المخرجة السويسرية «عايدة شلبفر » مديرا للأفلام الروائية بمهرجان الإسكندرية السينمائي الدولي

فاديا عيسي قراجه تكتب.. قميص أبي

الكاتبة
الكاتبة

قميص أبي

[ إلى الياسمينة التي تلتف حول أصابعي و تنثر بياضها فوق

هواجسي و عوالمي إليك أمي أهدي قميص أبي..]

انتهى الشتاء وبشّر الصيف, وما بين نهاية وبداية ,تتفنن أمي بممارسة ساديتها عليّ حيث لا تجد أمامها سواي..فاديا الغرف ...فاديا المطبخ.. فاديا غسيل السجّاد ...(بلا طول سيرة). انتشلني صوتها هذا الصباح من عمق أحلامي ,وهي تنقب في خزانتها تارة, وتحاول فك أخشاب سريرها تارة أخرى.. نظرت إليها وصحتُ باحتجاج : - بالله عليك كم بطيخة ستحملين في يد واحدة ؟

المهم نفضتُ النوم عن أجفاني ,واستأذنتها في فنجان قهوة..لم ترد..لاحظتُ انحناءات ظهرها, وهذه حركات أفهم منها بأنها تحبس غيظاً وحنقاً شديدين .. عدلت عن فكرة القهوة ,واعتبرتها رفاهية لا لزوم لها.. وبدأت بزحزحة الأثاث, وإخراجه ليتقلب تحت الشمس التي تحجبها أبنية جيراننا ..في حين تنزل أوامر أمي فوق رأسي كزخّ المطر المرافق للرعود والصواعق ,ولأمي باعٌ طويل قي هذا المجال,

وهي لمن لا يعرفها ,امرأة قوية الإرادة ,لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تعترف بهزيمتها حتى لو سطعت كشمس تموز ,في كثير من الأحيان أجلس جلسة بوذا أتأمل ,وأغوص ,وأنقّب في آراء أمي ,وبعد غربلة مضنية أخرج بنتيجة مفادها أن لأمي الحق في سلوكياتها وقناعاتها التي بنتها حجراً حجراً في وحدتها العاطفية, فقد رحل أبي وترك الجمل بما حمل, وهرولت أخواتي بكامل قواهن العقلية لبناء بيوت وهموم جديدة ,وأمي لمن لا يعرفها امرأة لا تضحك ,وإن حصل وضحكت فإن أثلام القهر المحفورة في روحها, تمتصّ بريق فرحها وألقه فتبدو ابتساماتها مغتصبة... بالعودة إلى الغرفة ذات الأحشاء المتناثرة ,فقد بدأتُ بسحبها وجرها إلى الخارج حتى وقعتُ على كيس قماشي مربوط من فمه بخيط طويل , للكيس لون أبيض حائل لصفرة داكنة ,وقد تهتك في أكثر من موضع, أمسكت الكيس وصحت بغضب :

- أمي ما نفع هذه الأشياء التي تحتفظين بها؟

رفعت الكيس من عنقه ولوحت به بلا رحمة أمام عينيها , فبدا كدجاجة نافقة وأكملتُ : - ما هذه الرمّة ؟ وما جدوى احتفاظك بها ؟

تركتْ أمي ما بيدها ,وقفزت برشاقة غزال ,اختطفت الكيس من يدي أمام دهشتي وانبهاري ..فتحته ,جاستْ عيناها في داخله, قلبت محتوياته ,ثمّ أعادت ربطه, ونقلته معها في تحركاتها هنا وهناك ,وهي تصدُّ نظراتي المفترسة عنه..رنَّ الهاتفُ, فأخبرتُ أمي بأنّ أختي تريدها.. حمدت الله لأنها نسيت كنزها ,وسارعتْ لتحلَّ مشكلة أختي المزمنة مع زوجها .. هجمتُ على الكيس, فتحته بعنف مما أحدث شقاً قي أحد أطرافه ...يا إلهي ما هذا قميص رجّالي باخت ألوانه مع الزمن ,جاكيت متهدل الأكمام ,جوارب سوداء مثقّبة كالغربال ,لن تحتمل لمسة مني!! ..

فردتُ القميص على الطاولة, وكنت بين الحين والآخر ألقي نظرة ذعر على الباب,وأطمئن بأن حديث أمي طويل تدل على ذلك نبراتها التي لا تنبئ بأن المكالمة ستنتهي قريباً... هذا قميص أبي ,أنا متأكدة من ذلك, فقد ضربت أمي الرقم القياسي في الوفاء تستحق أن تسجل عليه في كتاب غينيس.. مرّرتُ أصابعي على قبة القميص المجعّدة ,داعبت الزر الوحيد فاهتز باضطراب...هذا القميص التصق بجسد أبي في زمن ما .. أبي الذي لا أعرفه إلا من خلال صورة بالأبيض والأسود تتكرر في غرفنا الثلاث ..كم مرة وقفتُ أمام الصورة أتأمل هذا الوجه العميق والنظرات الحزينة؟ كم مرة عاتبته, وحادثته , ونقلت إليه لواعج روحي وشوقي إليه ,واتهمته في لحظات ضعفي وغضبي بالجبن لأنه تركنا دون وداع ,ورحل مفضِّلاً عالم التراب الأخرس على عالمنا ؟ إذاً هذه ملابس أبي ! تحتفظ بها أمي منذ أكثر من ثلاثين عاماً.. كنا نتساءل عما تفعله أمي في غرفتها لساعات طويلة ,ولماذا كانت تصرخ علينا بالمقلوب إذا اخترقنا عزلتها ,كم مرة مددّتْ أمي هذا القميص في محراب حزنها, وطرّزته بأنفاسها وشهقاتها؟ كم مرة تحدثتْ إلى أنسجة صماء بكماء؟ كم مرة شكت وبكت ونحن نيام لا نفقه شيئاً ؟ كانت تخرج من غرفتها بعيون منتفخة ,وصوتٍ كسير ,وفكرٍ شارد ... تراكمت السنون والطقوس هي.. هي, ,بابٌ موصد ..نشيج متقطع..وهمس حزين... يا ربي !! أيّ الرجال أبي حتى يستحق هذا الحب والوفاء كله ؟ كم من الأشياء المؤلمة تخفي أمي في خزائن عقلها وقلبها ؟

لا أدري متى دخلتْ أمي؟..لا أدري كيف اختطفت القميص من يدي؟.. لا أدري كيف أصبح مزقة في يدها, وأخرى في يدي؟.. انتفضنا.. خرجت آهة خافتة من صدر أمي.. نظرت الواحدةُ منا إلى الأخرى بخوفٍ ممزوج بألم عميق .. حلّ صمتٌ رصاصي .. أعادت أمي أشلاء الملابس إلى الكيس, أشارت إليّ أن أفعل مثلها, نفذتُ أوامرها كالمسحورة.. ربطتْ الكيس برفق ٍشديد , وعلقته بخصرها

بانتظار أن تبتكر مخبأ أكثر أمناً,حيث لا تتاح لي معرفته بسهولة ..نفضتْ يديها وكأن شيئاً لم يكن ,قالت وقد تلبّسها حزن وهمٌّ شديدين :

- حان دور تنظيف المطبخ.

أسبلت يديّ على جنبي باستسلام ,ولحقت بها وأنا لا أزال تحت تأثير سحرها.

• صيف2009