جريدة الديار
السبت 20 أبريل 2024 03:27 مـ 11 شوال 1445 هـ
بوابة الديار الإليكترونية | جريدة الديار
رئيس مجلس الإدارة أحمد عامررئيس التحريرسيد الضبع

د. أبوبكر الدسوقي يكتب: الدبلوماسية المصرية.. القدرة على الإنجاز رغم التحديات

د. أبوبكر الدسوقي
د. أبوبكر الدسوقي

مرت الدبلوماسية المصرية عبر تاريخها الطويل بالعديد من المنعطفات عبر حقب مختلفة، وكان جهاز الدبلوماسية المصرية، يعمل في ظل تناغم فريد بين المؤسسات الثلاث المعنية بصنع قرار السياسة الخارجية وفي مقدمتها مؤسسة الرئاسة، ووزارة الخارجية، وجهاز المخابرات المصرية، فكل يمارس دوره فيما هو موكل به في تحقيق المصالح الوطنية على المستوى الخارجي والداخلي على حد سواء.

فبعد ثورة يوليو 1952، حملت الدبلوماسية المصرية على عاتقها تنفيذ أهداف الثورة على عاتقها، ومنها ضرورة القضاء على الاستعمار، وإنهاء الاحتلال البريطاني لمنطقة قناة السويس، فكانت اتفاقية الجلاء في ١٩ أكتوبر سنة ١٩٥٤، ثم انطلقت بعد ذلك في مساندة  كل الشعوب الراغبة في الاستقلال، فكان الدعم الدبلوماسي الذي انتقل من القاهرة لكافة حركات التحرر العربية والأفريقية واللاتينية وكل شعوب العالم الثالث، حتى صارت مصر أيقونة الاستقلال لكافة هذه الشعوب، ولم يخل الأمر من تكلفة مادية وإنسانية وسياسية وعسكرية تحملتها مصر عن طيب خاطر وفاء للمبادئ الثورية في دعم حق الشعوب في تقرير مصيرها، ولاشك أن الأمثلة في هذا الصدد كثيرة ومتنوعة يضيق حيز المكان بحصرها.

وبعد أن تم تحرير معظم الدول النامية، ساهمت مصر بمشاركة الدول الكبار في العالم النامي (الهند ويوغسلافيا وإندونيسيا وغانا والجزائر) في الحفاظ على استقلال هذه الدول من خلال تبني حركة عدم الانحياز لأي من القوتين العظميين، كما ساهمت في تعزيز التعاون الاقتصادي بين هذه الدول وتحقيق التكامل الاقتصادي سواء من خلال مؤسسات العمل العربي المشترك أو من خلال مجموعة الـ 77 ولاحقاً بالمشاركة في التجمعات الاقتصادية الأفريقية، ودائما كانت الدبلوماسية المصرية تحظى بالدور الفعال في هذه المنتديات.

ورغم من ذلك واجهت الدبلوماسية المصرية أوقاتاً صعبة لكنها أثبتت قدرة وكفاءة في تخطي الصعاب، فبعد نكسة يونيو 1967، شاركت كل مؤسسات الدولة في محو أثار العدوان، وفي التصدي لنتائجه بقوة، وفي مساندة الدولة جهودها من أجل تحرير الأراضي العربية المحتلة في سيناء وفلسطين والجولان.

وقد  شاركت الدبلوماسية المصرية ببراعة في خطة الخداع الاستراتيجي التى جعلت العالم كله بما فيه الولايات المتحدة وإسرائيل يعتقدوا أن مصر لن تحارب مطلقاً، ومن ثم كانت المفاجأة بحرب أكتوبر المجيدة وانتصار الشعب العظيم... ثم شاركت الدبلوماسية في مفاوضات شاقة وعسيرة عندما راهنت مصر على التسوية السلمية  مع إسرائيل، وقد لعب صقور الدبلوماسية المصرية إلى جانب الرئيس السادات دوراً كبيراً في تحجيم المطامع الإسرائيلية وقد تم شرح هذا الدور باستفاضة في مذكرات كبار الدبلوماسيين المصريين اللذين عاصروا هذه الفترة.

وعندما تعرضت مصر للقطيعة العربية بعد إبرامها معاهدة السلام مع إسرائيل، نهضت الدبلوماسية المصرية بدورها بشرح مواقف مصر في كافة المحافل الدولية، وسارعت أيضاً مع تولي الرئيس مبارك الحكم في تكثيف الجهود من أجل إنهاء هذه القطيعة وعودة مصر للعرب وعودة العرب لمصر، وقد كان لها ما أرادات بعودة مصر إلى الجامعة العربية في 2 يونيو1989، وعودة الجامعة العربية للقاهرة في عام 1990.

وما أن عادت مصر للعرب حتى فوجئت بأكبر أزمة عربية باحتلال العراق للكويت، وحاولت مصر احتواء الأزمة عربياً وإقناع الرئيس العراقي بالانسحاب لكنه أفشل كل الجهود، ومن هنا كانت مشاركة مصر الفاعلة في التحالف الدولي لتحرير الكويت.

واستمرت الدبلوماسية المصرية طوال العقود الثلاثة اللاحقة في الحفاظ على ضمان استقلالية القرار السياسي المصري، ودعم عملية السلام بعد انطلاق مدريد للسلام في الشرق الأوسط، والتوصل فيما بعد لاتفاقات أوسلو بين الفلسطينيين والإسرائيليين،

ولم تنس مصر واجبها في دعم الشعب الفلسطيني في الوقوف دائماً ضد كل محاولات العدوان، ودعم القضية في كافة المحافل الدولية وفي كل مراحل التفاوض، من أجل إيجاد حل عادل ودائم وفقاً للشرعية الدولية، بل ساهمت مصر مراراً وتكراراً في فض الاشتباك بين الجانبين، بل توسطت كثيراً بين الطرفين من أجل الكف عن الحرب والجنوح للسلام.

وكانت مصر الشقيقة الكبرى السباقة في دعم نضال الشعب الفلسطيني من أجل قيام دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف وكان ذلك هو الدعم الأكبر عربيا وإقليمياً للقضية الفلسطينية... ولا يزال هذا الدعم مستمراً.

وفي أعقاب أحداث يناير 2011 عكفت الدبلوماسية المصرية بمشاركة مؤسسات الدولة على الحفاظ على هوية الدولة وسيادتها والحفاظ على دوائر السياسة الخارجية المصرية، ومنع تعريض الأمن القومي للخطر، وكذلك منع الانجرار نحو مستنقع العنف والفوضى الذي خاضته دولاً أخرى شقيقة، ومعاناتها من توغل وسيادة قوى التطرف والإرهاب في هذه الدول.

ومع قيام ثورة 30 يونيو 2013، كانت هناك انطلاقة جديدة للدبلوماسية المصرية في القيام بواجبها الوطني في إزالة أثار الفترة السابقة وما ألحقته بمصر من خسائر على كافة الأصعدة العربية والأفريقية والدولية، لكن جهاز الدبلوماسية المصرية فوجئ بقرار الاتحاد الأفريقي تجميد عضوية مصر لديه، وسارعت الدبلوماسية المصرية كالعادة بالقيام بالجهود اللازمة وبالسعي لدى كافة الدول والعواصم الأفريقية حتى عادة الأمور إلى سابق عهدها بعودة مصر للاتحاد الأفريقي بعد عام واحد فقط من تجميد العضوية.

 ومع تولى الرئيس عبد الفتاح السيسي حكم مصر في 2014، كانت هناك فرصة كبيرة للدبلوماسية المصرية للانطلاق مرة أخرى لتحقيق نجاحات جديدة، فكان التأكيد بداية على ضرورة الحفاظ على استقلالية القرار الوطني من خلال تنويع مصر لعلاقاتها الدولية والحرص على التوازن في علاقات مصر بالقوى الكبرى، وبعد أن استطاعت مصر دحر قوى الإرهاب في الداخل واستعادة الدولة المصرية لعافيتها، بدأت الدبلوماسية المصرية تمارس دورها في ترتيب الإقليم وفي الوقوف ضد كل المحاولات الإقليمية الرامية إلى تهديد الدولة الوطنية وسيادة العنف والفوضى وعدم الاستقرار، فكانت جهود مصر البارزة في إنهاء الأزمة في ليبيا والعودة إلى العملية السياسية وتحقيق التوافق بين الأطراف المتصارعة من أجل مستقبل  أفضل للشعب الليبي، وفي هذا الإطار أيضاً كانت سياسة مصر المتزنة تجاه الأزمة في سوريا بالتأكيد على وحدة الدولة السورية بوصفها الدولة الشقيقة والبوابة الشمالية للأمن القومي العربي والأمن المصري.

كما استطاعت مصر تدشين دائرة جديدة أصبحت محل اهتمام العالم في السنوات القليلة الماضية، وهي دائرة "شرق المتوسط" من خلال علاقات ثنائية وثلاثية ناجحة بين مصر وقبرص واليونان توجت بتأسيس منظمة دول شرق المتوسط لتحقيق التعاون في إنتاج وتسويق الغاز إقليميا ودولياً، بعد اكتشافات الغاز التى تحتوي على احتياطيات هائلة لهذه الدول بعد أن نجحت في ترسيم الحدود البحرية بينها.

وفي عام 2020 شاركت مصر في تأسيس "مجلس الدول العربية الأفريقية المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن" من أجل التنسيق والتعاون مع الدول المتشاطئة، بهدف تعزيز أمن البحر الأحمر وسلامة الملاحة البحرية، وتنمية العلاقات الاقتصادية والتجارية، وتعزيز الاستثمارات بين الدول الأعضاء وتعزيز النقل البحري.

كما نجحت الدبلوماسية المصرية أفريقيا برئاسة مصر الاتحاد الأفريقي في فبراير 2019، ورئاستها لمجلس السلم والأمن الأفريقي مرتين أخرهما في الأول من نوفمبر2021 بل كما نجحت مصر في استضافة مركز القاهرة الدولي لتسوية النزاعات وحفظ السلام وبناء السلام.

ولا شك أن رئاسة مصر لمجلس الأمن ممثلة عن القارة الأفريقية كان تتويجاً لإنجازات الدبلوماسية المصرية إفريقياً، وإقليمياً وعالمياً.

كما شاركت مصر قبل ذلك في التحالف العربي لدعم الشرعية في اليمن لمواجهة الحوثيين وتأمين باب المندب من أية محاولات إقليمية لتعطيل الملاحة به، وحرصت مصر على التأكيد بشكل دائم أن أمن الخليج العربي خط أحمر وأنه يرتبط بالأمن القومي المصري.

كما خطت الدبلوماسية المصرية خطوة متميزة نحو المشرق العربي حيث عقدت قمة ثلاثية مصرية أردنية عراقية في 27 يونيو 2021جمعت قادة الدول الثلاث الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، والعاهل الأردني عبد الله الثاني، ورئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، وذلك بهدف تعزيز مجالات التعاون الاقتصادي والتجاري والاستثماري، وتأسيس مرحلة جديدة من التكامل الاستراتيجي بين الدول الثلاث، قائمة على الأهداف التنموية المشتركة، في ضوء الروابط التاريخية والشعبية المتينة بينها.

ولا تزال التحديات مستمرة ومازلت قدرة الدبلوماسية المصرية الفريدة على تخطي الصعاب مستمرة، ولا شك أن أحد أهم الصعاب الحالية هي الموقف الأثيوبي المتعنت تجاه سد النهضة، ورفض أديس أبابا الالتزام القانوني بقواعد تشغيل السد بما لا يضر بحصتي مصر والسودان وتهديد أمنهما المائي رغم الجهود المستمرة والمتعددة على المستوى الأفريقي والدولي.

لكن حقيقة القول أن الدبلوماسية المصرية تستند في أدواتها على قوة مصر الشاملة الحضارية والاقتصادية والعسكرية إلى جانب القوة الناعمة من فنون وعلم وثقافة ودور الأزهر والكنيسة، وغيرها من مظاهر القوة التى تمنح الدبلوماسية المصرية القدرة العالية على الاستمرارية بقوة وثبات وكفاءة، كما أنها تتسم  بسياسة النفس الطويل في مواجهة الظروف الصعبة، ولديها قدرة هائلة على الثبات الانفعالي في وقت الأزمات، فضلا عن التزامها الدائم بمبادئ وأهداف ميثاق الأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية، خاصة احترام سيادة الدول وعدم التدخل في الشئون الداخلية، والتسوية السلمية للنزاعات، كما أن أجهزة الدبلوماسية المصرية تضم نخب ذات كفاءات عالية من خيرة رجال مصر، لديهم تاريخ عريق من الخبرات والتجارب، مزودين بكل الثقافات والعلوم الإنسانية وهذا هو السر الأكبر في نجاح الدبلوماسية المصرية عبر عقود طويلة وعهود مختلفة.

وأخيرا من الواجب القول بأن الدبلوماسية المصرية اتسمت بالقدرة على الانجاز رغم عظم التحديات التي مرت بها مصر في العصر الحديث، فالدبلوماسية التي تحملت أعباء نكسة يونيو1967 وقادت لنصر أكتوبر المجيد 1973، وتحملت أعباء السلام ومفاوضاته الشاقة، وتصدت بقوة لكل الأزمات التى مرت بمصر والعالم العربي، قادرة بعون الله على مواصلة الجهود المخلصة سعياً لإيجاد الحلول الإيجابية لكافة الأزمات وتحقيق المصالح المصرية والعربية والأفريقية ... حتى ولو بعد حين.