جريدة الديار
الخميس 7 نوفمبر 2024 12:45 مـ 6 جمادى أول 1446 هـ
بوابة الديار الإليكترونية | جريدة الديار
رئيس مجلس الإدارة أحمد عامررئيس التحريرسيد الضبع

الروائي محمد جبريل: كتاباتي تقاوم القهر والمطاردة والخوف (حوار)

الكتابة خُلقت من أجلي.. و"حارة اليهود" تناهض العدوان الصهيوني

الرواية الحديثة بدون الشعر لا يمكن أن تحيا

أمام ملامحه الطفولية وعينيه اللامعتين يصعب تصديق أنه تجاوز النصف قرن من العطاء الأدبي، ورغم اختراق الأحداث الكبرى حياته بدءا من الحرب العالمية لم يتعكر صفو روحه.

يبدو أن الأديب الكبير محمد جبريل، قد وصل لمعادلات سمحت له بأن يعيش حيوات كثيرة لم تترك أثرها على جسده الأرضي، بالأحرى ذابت ملامحه على وجوه شخوصه الروائية وتماهى في عالمه الأدبي إلى أقصى درجة، في حواره لــ "الديار" تحدث كأنه نهر يفيض بالعطاء وتاليا نص الحوار.

بداية كيف تميز العمل الأدبي الجيد؟ وعن ماذا يبحث القارئ؟

أتصور أن لي مشروعي الأدبي الذي تشكل من خلال القراءات والتجارب الشخصية والتراجم والسير الغيرية، إطار المشروع محاولة لما يمكن تسميته بفلسفة الحياة، فمجرد الإنفعال الصادق والتكنيك الجيد ليس كل ما ينشده المتلقي في الفن، إنه ينشد فلسفة معينة، أو بعدًا نفسيًا، أو دلالة إنسانية، هي جزء من كل بانورامي في مجموع أعمال الفنان
وإذا كانت المسألة – في نظر البعض– مسألة أسلوب، ثم تأتي الفكرة، فإن الرأي المقابل الذي أتصوره صحيحًا، هو أنه من الصعب الفصل بين فلسفة والفنان، وما يختاره من أساليب فنية، ما يشغلني في مجموع أعمال فنان ما، هو صورة العالم لديه، بما يختلف – بالتأكيد – عن صورته في نظر الآخرين، إن مجموع الأعمال يشكل وحدة عضوية ترتبط جزئياتها بأكثر من وشيجة، لأن رؤية الفنان لقضايا الإنسان الأساسية تتردد كالنغم عبر أعماله جميعًا.

إن لم تكن أديبا فماذا كان البديل؟

أكاد أتصور أن الكتابة خلقت من أجلي، قبل أن أخلق أنا للكتابة، لا أتصور نفسي في غير الكتابة، وفي غير القراءة والتأمل وتسجيل الملاحظات والإبداع، الكتابة عندي جزء من حياتي اليومية، جزء من تكويني الجسدي والنفسي، وهى مثل احتياجات الإنسان الضرورية، مثل الطعام والجنس والنوم والحرية، أذكر قول رايوموني "Rayaumoni " لقد أصبحت روائيًا بالضرورة، وما استطعت تجنب ذلك".

بدأت المعايشة والملاحظة والاختزان في سن باكرة للغاية، ربما لأني كنت مهمومًا بكتابة القصة في تلك السن، لم أتعمد أي شيء، لكن ما أختزنه دون تعمد يظهر في لحظة لا أتوقعها أثناء فعل الكتابة، ثمة مشكلة، تلح علي وجدان الكاتب، وتبين عن ملامحها في مجموع أعماله، هذه المشكلة، هي محصلة خبرات شخصية، وتعرف إلى خبرات الآخرين، وقراءات وتأملات يحاول التعبير عنها من خلال قدرة إبداعية حقيقية.

أنا أحاول أن أفيد من قراءاتي، وخبراتي، وخبرات الآخرين، صوغ وجهة نظر تحاول الإكتمال، ولعلي أزعم أن عالمي الإبداعي يتألف من "تيمات" أساسية يدور حولها ما أكتبه من رواية وقصة، من يريد تناول أعمالي، أو حتى يكتفى بقراءتها، يقرأ كل هذه الأعمال، ثمة وجهات نظر، نظرة شمولية، إطار عام، أحاول أن أعبر من خلاله عن فلسفة حياة مكتملة، بالإضافة إلى محاولات التجريب تقنيًا، ربما أعدت تناول التيمة الواحدة في أكثر من عمل، لا يشغلني التكرار بقدر ما يشغلني التعبير عما أتصوره من أبعاد فلسفية حياتية.

ظني أن القضية الأساسية في خلفية كل القضايا هي الوجود الإنسانى: الحياة، المصير، الموت، ما بعد الموت، وما قد يخلفه الإنسان من أثر في هذا العالم.

ثمة الحب، والموت، والإحساس بالمطاردة، والوحدة، والحنين إلى الماضي، والعزلة عن الجماعة، وصلة المثقف بالسلطة، والقهر في الداخل، والغزو من الخارج، لكن العنوان العريض الذي أتناول -من خلاله- تلك القضايا هو المقاومة، مقاومة كل مظاهر القهر والمطاردة والتسلط والعبث.

من المؤكد أني لا أميل، بل أرفض دعائية الفن وجهارته وتقريريته ومباشرته، لكنني لا أنفي القيمة، لا أرفضها، أجد فيها بعدًا مهمًا في العمل الإبداعي، وإلاّ تحول إلى ثرثرة لا معنى لها، ربما أكون محمّلًا بفكرة، وربما حاولت أن أعبّر عن ذلك في كتاباتى، لكنني أفضّل أن يتم على نحو فني، فلا تقريرية، وإنما حرص مؤكد على فنية العمل الإبداعي من حيث هو كذلك.

ماذا تعلمت من الحياة؟

لست أذكر اللحظة التى قلت فيها لنفسي: خلق الإنسان ليقاوم، لم أكن استمعت إلى الكلمات، ولا قرأتها، وإن بدت محصلة معايشة وخبرات وقراءات ولحظات تأمل ومحاولات إبداعية، جعلت من المقاومة محورًا لها.

طفولتي حوالي الحرب العالمية الثانية، نهاية الحرب بانتصار الحلفاء على المحور، وميلاد حرب جديدة هي الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي، مقاومة الحفاء والفقر والجهل والمرض أهم مشروعاتنا القومية، تحول الفساد إلى ما يشبه المرض المتوطن، تفاقم مشكلات الصراع الطبقي، احتدام الصراع بين السراي والسفارة البريطانية وأحزاب الأقلية من ناحية، وحزب الأغلبية من ناحية ثانية، تحيف الظلال موقف حزب الوفد في حادثة 4 فبراير، نشاط حركة الإغتيالات السياسية، أهم الأجيال في القرن العشرين تفرزه تطورات الأحداث، شكل تبدلًا محوريًا في كافة المجالات، كتابات وإبداعات كثيرة، أضافت إلى وعيى المعرفي والفني، في بداية الإستيلاء الفعلي على أرض فلسطين سنة 1947 بقرار التقسيم الذي أصدرته الأمم المتحدة، يليه إعلان دولة إسرائيل، فتوالي الحروب بين الكيان الصهيوني والأقطار العربية، بما أعاد رسم المشهد الدامي، وتوسيعه، وتعميقه، حتى الآن، شكل ذلك كله باعثًا للمقاومة لدى المواطن المصري، وبخاصة من يشغله الشأن العام، ويحلم بالتغيير.

المقاومة -عندي- ليست مجرد شعار أحاول أن أطبقه في حياتي، إنها ترتبط بالإصرار على التطبيق، لا يظل الشعار في حدود بلاغية، لكنه يترامى في آفاق لا حدود لها، إذا واجه المنع والمصادرة فإنه يظل قائمًا، أدافع عنه ما وسعني، أقاوم القهر والزيف والفساد والمصادرة، أشفق على سناء سقوطها في رواية "العيب" ليوسف إدريس، أو فؤادة في رواية "الغائب" لنوال السعداوي، لكننى أجتهد - من يدري؟- كي لا أتعثر في خطواتي، أو يخضعني ما لا أستطيع مغالبته.

في المقابل، فإني أوافق على الرأي بأن الأدب ليس معملًا لماكينات الدعاية، لكنه ممارسة مستمرة، وبدون هذا العنصرمن التحمس، من جانب من يكتب، ومن جانب من يقرأ، لا قيمة لأي عمل أدبي، ولا معنى له على الإطلاق

وكيف أثر ذلك في إبداعك؟

المقاومة هي العنوان العريض لفلسفة حياتي كما تدل كتاباتي المختلفة، ثمة مقاومة الخوف والمطاردة والسلطة الظالمة، في المقدمة مقاومتي للعدوان الذى نعانيه، وهو العدوان الصهيونى على أرضي وموروثاتي وقيمي وهويتي، لا يقتصر ما كتبت على مجموعتي القصصية "حارة اليهود"، لكنه يشمل إبداعات أخرى غيرها، بل إن حارة اليهود تجميع للأعمال التى تعني بالمقاومة ضد الاحتلال الصهيوني من مجموعاتي القصصية، بالإضافة -طبعًا- إلى انعكاس المقاومة في العديد من أعمالي الروائية.

أرفض الرأي الذى يقصر الإبداع المقاوم على ما يدعو إلى المقاومة بالسلاح.

كذلك فإن المقاومة الإبداعية ليست في مجرد الكلمات الجهيرة، أو الزاعقة، إنها تحتفى بالجمال والصوفية والخيال واللحظات الإنسانية،ولعلي أعترف أن الإستياء يأخذني عندما أقرأ عن قضية مهمة في نص رديء

لا تخلو أعمالك من الرموز الدينية كالمساجد.. حدثنا عن ذلك.

التعبير عن فلسفة حياة يمثل بعدًا مهمًا في محاولاتى، ليس بمعنى الميتافيزيقا -كما أشرت- وإن كان البعد الميتافيزيقي مهم جدًا في الشخصية المصرية، أسميه الواقعية الروحية، ويتمثل في التعامل مع الموتى، والإيمان بكرامات الأولياء الله ومكاشفاتهم، بصرف النظر إن رحلوا أم كانوا على قيد الحياة، إرسال الخطابات إلى القديسين وأولياء الله، الموتى، تكوين في المعتقد المصري منذ عهود الفراعنة إلى زماننا الحالي، تأكيدًا لاستمرار المعتقدات الدينية، الشعبية، المصرية، منذ تيقن الإنسان من وجود خالق له، وللأكوان من حوله.

حين يصدر أستاذنا سيد عويس دراسة ضخمة عن رسائل المصريين في صندوق نذور الإمام الشافعي، فإن تلك الرسائل انعكاس لإيمان أصحابها بقدرة أولياء الله على تحريك الساكن، وبلوغ النصفة لمن يسعون إليها
في الواقعية الروحية، أزاوج بين الميتافيزيقا والفانتازيا والخيال والإيهام بالواقع، أشرت -من قبل- إلى أن الواقع أشد واقعية من الفن، كذلك فإني أوافق نجيب سرور على أن الواقعية أغنى وأخضب وأشد تنوعًا من أن توضع في إطار جامد

ثمة من يحرص على مصداقية العمل الفني، الحدث الروائي، لا يرفض الممكن والمحتمل، لكنه يرفض اللامصداقية، وأن يصدر منطق العمل من داخله.

كيف أثرت الرواية وتأثرت بالفنون الأخرى؟

إفادة الرواية من الفنون الأخرى كالموسيقى والتشكيل والشعر وغيرها، يعني إفادتها -بلغة ناتالي ساروت- من مخصّبات تضيف إلى الأرض المنهكة تجدد حياة.

على الروائي أن يثري إبداعه بإسهامات الفنون الأخرى، بما تملكه من خصائص جمالية وتقنية، فيتحقق للنص الأدبي أبعاد جديدة تتحقق كذلك أبعاد جديدة للفنون الأخرى.

على سبيل المثال، فإن الروائي ينبغي أن يكون ذا حس عال بالشعر، فثمة حس للكلمة، وحس للصورة، وهما حسّان شاعريان، اللفظة مهمة في الرواية، والصورة أيضَا بالقدر نفسه لأهميتها فى القصيدة الشعرية، "الرواية الحديثة تحتوى إطارًا شعريًا، بل إنها بدون الشعر لا يمكن أن تحيا، ولا أن تبشّر بآفاق أخرى للمعرفة غير المنظورة"، إن المزاوجة بين التوتر الشعري والفن السردي إضافة مطلوبة في فن الرواية
أذكر أني حاولت الشعر فى البداية، وتأثرت بشعراء أبوللو، فلما أدركت أن القصيدة يصعب أن تكون لغتي التعبيرية، تبدّت لغة الشعر في أعمالي الروائية والقصصية، وهو الأمر الذى يعد ملاحظة أساسية في التناول النقدي لأعمالي، تهمني اللغة فيما أكتب، الكلمة المناسبة في موضعها، الكلمة الفلوبيرية -على حد تعبير بورخيس- التي تحسن التعبير عن الفوضى الدنيوية الغامضة، أوعن الرؤيا اللحظية الكاشفة، لا تهمني الألفاظ الضخمة أو المهجورة أو القديمة، لكن تشغلني موسيقا الحرف والكلمة والجملة، أحذف، وأضيف، وأعدّل، بما يحقق الاتساق والهمس الشعري والإيحاء ذي الدلالة.

القول بموسيقا الشعر يعني أهمية الموسيقا بالنسبة للشعر، إن الشعر لا يصبح شعرًا بدون موسيقا، ويرى جاتشيف أن الموسيقا هي أقرب الفنون إلى الأدب، وإن تباينًا في طريقة التعبير عن الإيقاع العام للوجود، وللعالم الداخلي للإنسان، ولا يخلو من دلالة قول بابلو بيكاسو: إذا أردت تعلم التكوين في الرسم، فإن عليك بدراسة مسرح مايرهولد
لا يستوقفني الفنان الذى تدرس مسرحياته، بقدر ما يبدو مطلوبًا تفاعل الفن التشكيلي والمسرح.

يغيظني ذلك الذي يحاول التجريب في القصة القصيرة -مثلًا- ويرفضه في الفن التشكيلي، يكتب أعمالًا يؤطرها النقد في السوريالية، بينما يعجز عن قراءة إبداعات تشكيلية مماثلة، الفن التشكيلي يلتحم بالفنون الأخرى، من خلال التكوين والإطار والأبعاد والأضواء والظلال، واتساقًا مع قول سرفانتس: الرسام والأديب هما سواء، فإن أرنولد بينيت يذهب إلى أن التشابه بين فن الرسام وفن الروائي تشابه تام، فمصدر الوحي فيهما واحد، وعملية الإبداع في كل منهما هي العملية نفسها -مع اختلاف الوسائل- ونجاحهما أيضًا واحد، وبوسعهما أن يتعلما، كل من الآخر، وبوسعهما أن يشرحا ويساندا كل الآخر، فقضيتهما واحدة، ومجد الواحد هو مجد الآخر.

وأضاف: نشأت الرواية من الدراما، ومن ثم فهي تشتمل على بعض المكونات المسرحية، وتؤكد آراء نقدية عمق الصلة بين القصة القصيرة والمسرحية، تنبأت الرواية -والقول لكونديرا- بفن السينما، وتمثلته مسبقًا، السينما هي رواية بالصور، حتى أن السؤال يثار.

ما أساس الفيلم السينمائي: هل هو صور لرواية، أم رواية لصور؟

أفادت السينما من المدارس الفنية التشكيلية المختلفة مثل التأثيرية والتعبيرية والتجريدية والسوريالية، كما أفادت الرواية من تقنية المدركات الحسية والبصرية: المونتاج، التبئير، الزاوية القريبة، التناوب، الاسترجاع. وتبادلت الرواية، والسينما بعامة، التأثر والتأثير
أفدت –شخصيًا- من دراسة السيناريو على أيدي أساتذته الكبار: صلاح أبو سيف وعلي الزرقاني وصلاح عز الدين وغيرهم، تبينت إمكانية -بل حتمية- تلاقح السرد القصصي وتقنية السيناريو من تقطيع واسترجاع إلخ
وأمام قول البعض وهو يدفع إليك بأوراقه: هذا نص!، أني أعتبر هذه الأوراق مجرد محاولة، نثرية أو شعرية، حتى أتبين مدى اقترابها، أو ابتعادها، عن هذا الجنس الأدبي أو ذاك، لا أغفل إمكانية توقعي العمل المتميز، العبقري، الذى قد يفاجئني بجنس إبداعي لم يكن موجودًا من قبل، لكن هذا العمل لابد أن يحمل قوانين أخرى مغايرة.