جريدة الديار
الخميس 18 أبريل 2024 09:49 صـ 9 شوال 1445 هـ
بوابة الديار الإليكترونية | جريدة الديار
رئيس مجلس الإدارة أحمد عامررئيس التحريرسيد الضبع

ياسين غلاب يكتب.. أوروبا وخطر التفكك

كانت الحرب العالمية الأولى حلا للخلافات بين المتنازعين كما كانت كذلك الحرب العالمية الثانية.

الحرب الروسية الأوكرانية تعبير أمين ومختلف عن هذا الحل، هي قاطرة لاختصار زمن الخلاف أو بمعنى أدق استباق لحل خلاف تجذر ولم يعد بالإمكان وجود خيار غير المواجهة، فالعلاقات بين روسيا من جهة وبين أمريكا وبريطانيا من جهة أخرى لم تعد ممكنة. لجأ بوتين إلى الحرب كما يلجأ الطبيب للكي أو الجراحة لوضع شروط جديدة للحياة مع شركائه القدامي أو للحياة مع شركاء جدد.

تهدف روسيا من خلال هذه الحرب إلى حشر أوروبا في الزاوية؛ هل تظل خاضعة لهيمنة وحماية الولايات المتحدة وبريطانيا (ما يسمى بالأنجلوساكسون) أو تخرج من هذه التعبية للأبد أو على الأقل تضغط عليهما لإقامة علاقات متوازنة مع الشريك الروسي.
التسريبات التي كشفت محاولة روسيا الحصول على ضمانات أمنية من حلف الناتو ورد الحلف عليها تبين بكل جلاء أن العلاقة بينهما وصلت إلى طريق مسدود. يريد الروس من الحلف أن لا يتقدم شرقا خاصة في أوكرانيا وأن يعترف الحلف بحق تقرير الشعوب لمصيرها في ترانسنيستريا وأبخازيا وأوسيتيا والقرم؛ أسوة بما حدث في يوغسلافيا؛ فيما أراد الأمريكيون التسويف بإظهار النقاش والتفاوض دون حل وصاغوا الأمر على هذا النحو: "النقاش في مجالات تعهد تسمح بتحسين الأمن"وهذا ما كان محور لقاءات بوتين مع بايدن.

هذا الطريق المسدود هو ما جعل في ظن كثير من المحللين والمراقبين مثل المحلل الفرنسي تييري ميسان السبب الذي جعل روسيا تتوقف عن مطالبة الناتو بتعديل ميثاقه ليتوافق مع الأمم المتحدة. يبدو أن موسكو تيقنت من أن واشنطن لا تريد التخلي عن مركز السيادة في الحلف ولا يريد الأوربيون إعادة التفكير في وضعهم فيه وفي ظني أن السبب يعود لاستثمار كل من واشنطن ولندن منذ زمن بعيد في النخب الأوربية الحاكمة؛ فمجرد كشف الأمور على طبيعتها للرأي العام الأوروبي كفيل بخسارة هذه النخب لمناصبها وربما كان هذا السبب في رأيي العجلة في منع وسائل الإعلام الروسية من البث في الفضاء الأوروبي.

أطلق الروس اسم العملية العسكرية على حربهم ضد حلف الناتو كفرصة لكي يعيد يرى الأوربيون الواقع كما هو عليه فيترك لهم فرصة لتعديل موقفهم وجاءت صدمة إعلان بوتين التأهب في الأسلحة النووية ليفيق النائم من الأوربيون ومن باقي دول العالم فالحديث جد لا هزل فيه. فإما أن يحسب الشريك الأوروبي موقفه ويصل إلى صيغة تفاهم مشترك مع الجانب الروسي وإما أن تسير الأمور إلى علاقات جديدة للروس مع الأوربيين وغيرهم من دول العالم وصولا إلى نظام عالمي جديد.

سارعت قيادات أوروبا إلى الصراخ والعويل ومسايرة واشنطن ولندن في فرض عقوبات غير مسبوقة في التاريخ أملاً في أن يهز ذلك الدب الروسي لكنه وقف هادئا صامدا؛ حتى جر أمريكا وأوروبا إلى الميدان الذي أراد منازلتهم فيه ..ميدان الموارد؛ الطاقة والغذاء والمعادن، الآن يصرخ الأوربيون فمجرد التفكير في قطع إمدادات الطاقة مثلما حصل مع بولندا وبلغاريا كفيل بتحويل ثلج أوروبا إلى نيران تشتعل في عقول وقلوب المواطنين الأوروبيين.

إن تصريحات القادة الأوربيين المتكررة بشكل شبه لحظي وعشرات المؤتمرات الصحفية التي عقدت منذ بداية الحرب حتى الآن كان تضاربها مقصودا ومتعمدًا منها ما يعالج الرأي العام الأوروبي والاستثمارات الأجنبية فيه فأوروبا وأمريكا هما المركز المالي العالمي واقتصادهما قائم على الخدمات المالية وتحكم الدولار واليورو في الاقتصاد العالمي. أمريكا يمكنها أن تتحمل أية انهيارات في سلاسل الإمداد لفترة أطول فلديها مواردها أما أوروبا فلا، إذ سيتوقف هدير الإنتاج وترتفع أسعار الغذاء وفواتير الطاقة بشكل لن تستطيع تحمله.

الآن الكرة في الملعب الأوروبي. فهل يمكنهم تحقيق الهدف المستحيل؛ البقاء تحت هيمنة الولايات المتحدة وبريطانيا ومنع نشوب حرب عالمية جديدة في ذات الوقت؛ أم يلجأوون لصياغة علاقة جديدة مع الروس ووقتها سينفرط عقد الناتو إلا لم يكن عقد الاتحاد الأوروبي نفسه. هذا ما ستكشفه لنا الأيام القادمة وما شتاء أوروبا عنا ببعيد.