جريدة الديار
الجمعة 19 أبريل 2024 04:58 مـ 10 شوال 1445 هـ
بوابة الديار الإليكترونية | جريدة الديار
رئيس مجلس الإدارة أحمد عامررئيس التحريرسيد الضبع

الجوع كافر.. بقلم الدكتورة روحية مصطفى أحمد الجنش

اللهم إنا نعوذ بك من الكفر والفقر.

الجوع كافر :

هذا اللفظ من الألفاظ التي تنتشر على ألسنة الناس ويقصد بهذا التعبير عن شدة الجوع الذي قد يؤدي بصاحبه إلى ارتكاب المحظورات ، فما مدى صجة قول هذه العبارة في ميزان الشريعة الإسلامية .

أولاً : يقول الله تعالى في سورة البقرة :

وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ .

البقرة/ 155 – 157

فيخبر سبحانه أنه لا بد أن يبتلي عباده بالمحن ، ليتبين الصادق من الكاذب ، والجازع من الصابر ، وهذه سنته تعالى في عباده ، وقوله تعالى :

( بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ )

أي : بقليل من ذلك ؛ لأنه لو ابتلاهم بالخوف كله ، أو الجوع كله ، لهلكوا ، والمحن تمحص لا تهلك ، ومن وفقه الله تعالى للصبر عند وجود هذه المصائب ، فحبس نفسه عن التسخط قولا وفعلا ، واحتسب أجرها عند الله ، وعلم أن ما يدركه من الأجر بصبره أعظم من المصيبة التي حصلت له ، فهذا قد صارت المصيبة نعمة في حقه ، فلهذا قال تعالى :

( وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ) أي : بشرهم بأنهم يوفون أجرهم بغير حساب .

ثانيا ً : يجب أن نعلم أنه ماشبع رسول الله صلى الله عليه وسلم وآل بيته من طعام قط ثلاثة أيام حتى قُبض ، وكان يمر الهلال ثم الهلال ثم الهلال ولم يوقد في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم نار ، وإنما كانوا يعيشون على التمر والماء ، وكان حينما يشتد به الجوع هو والشيخين رضي الله عنهما يخرجون من بيوتهم قاصدين صحابي آخر فيطعمهم ، وأشد من ذلك فقد أقسم المصطفى صلى الله عليه وسلم بالله الذي لا إله إلا هو أنه كان يعتمد بكبده على الأرض من الجوع ، وكان يربط على بطنه تخفيفاً لألم الجوع .

وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال في أبواب معالجة الجوع ، أفشوا السلام ، وأطعموا الطعام ، تدخلوا الجنة بسلام ، ومن أطعم كبدا جائعا أطعمه اللَّه من أطيب طعام الجنة.. ومن أطعم مؤمنا حتى يشبعه أدخله اللَّه من أبواب الجنة، لا يدخلها إلا من كان مثله.

وذكر أيضاً من أبواب مواجهة الجوع : عدالة التوزيع، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: " ليس بمؤمن من بات شبعان وجاره إلى جنبه جائع" صحيح .

وفي رواية "وهو يعلم" .

وفي الحديث الآخر :

"أيُّما أهل عرسة من المسلمين بات فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله وذمة رسوله " .

حسن

وبعض أهل العلم قالوا :

"لو مات رجل في قرية أو في حي من الجوع وجب على أهل القرية أن يدفعوا ديته"، لأن همَّ تسببوا في قتله، وهذا اسمه القتل بالترك، يعني تركوه إلى أن مات .

وقد فُرضت في أموال الأغنياء حقوقاً، الزكاة أولها وليست آخرها، تؤُخذ من أغنيائهم لتُرد على فقرائهم، و حق التكافل أن يكون الجميع متكافلين كالأسرة الواحدة أو كالجسد الواحد، كما صوَّرهم النبي عليه الصلاة والسلام: "إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر"، فلا يجوز إن الإنسان يعيش هو مترفاً ويترك الآخرين.

فهذا عمر بن عبد العزيز بلغه أن أحد أقاربه اشترى خاتماً فصه بألف درهم، فكتب إليه كتاباً يقول:

أما بعد.. فقد بلغني أنك اشتريت خاتماً فصه بألف درهم، فإذا جاءك كتابي هذا فبعه، وأطعم بثمنه ألف جائع، واشتري خاتماً فصه من حديد، واكتب عليه رحم الله امرءاً عرف قدر نفسه، وهذا معناه أن الألف درهم تطعم ألف جائع، ومعناها أن الفرد الواحد ممكن أن يأكل طعام ألف جائع أو ألف أسرة ؟!، فمن هنا كان العدالة الاجتماعية التي فرضها الإسلام.

ثالثاً : استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من الجوع بقوله اللَّهم إني أعوذ بك من الجوع؛ فإنه بئس الضجيع. رواه أبو داود بإسناد حسن .

واستعاذته صلى الله عليه وسلم من الجوع ترجع لأمور :

الأول : أن الجوع يورد بعض الناس موارد الكفر والعصيان وترك الطاعات، فالجائع يفقد أحيانا سلطانه على نفسه فيسرق أو حتى يقتل من أجل سد جوعته أو جوعة عياله، وهو في ذلك شبيه بالفقر الذي يسوغ وصفه بالكفر أيضًا.

الثاني : أنه يمنع من استراحة البدن، ويحلل المواد المحمودة بلا بدل، ويشوش الدماغ، ويثير الأفكار الفاسدة والخيالات الباطلة، ويضعف البدن عن القيام بوظائف الطاعات.

والثالث : وربما لأن الجوع سببه الفقر ، وقرن الفقر بالكفر لأنه قد يجر إليه، ألم تستغل بعض الدول الغير الإسلامية حاجة الشباب إلى العمل فتشترط عليهم التنصير
الفقر المدقع خطر على العقيدة، ولاسيما إذا كان هذا الفقر المدقع بجانبه ثراء فاحش، وبخاصة إذا كان الفقير هو الساعي والكادح، والمترف هو المتبطل القاعد.

ورد عن بعض السلف أنهم كانوا يقولون: إذا ذهب الفقر إلى بلد قال له الكفر: خذني معك.
لأن الفقر مع الاضطرار إلى ما لا بد منه قارب أن يوقع في الكفر؛ لأنه يحمل على حسد الأغنياء، والحسد يأكل الحسنات، وعلى التذلل لهم بما يدنس به عرضه ويثلم به دينه، وعلى عدم الرضا بالقضاء وتسخط الرزق، وذلك إن لم يكن كفرا فهو جار إليه، ولذلك استعاذ المصطفى صلى الله عليه وسلم من الفقر.

وقال سفيان الثوري: لأن أجمع عندي أربعين ألف دينار حتى أموت عنها أحب إلي من فقر يوم وذلي في سؤال الناس. قال : ووالله ما أدري ماذا يقع مني لو ابتليت ببلية من فقر أو مرض فلعلي أكفر ولا أشعر. فلذلك قال: كاد الفقر أن يكون كفرا؛ لأنه يحمل المرء على ركوب كل صعب وذلول وربما يؤديه إلى الاعتراض على الله والتصرف في ملكه...إلخ.

وأخيراً أقول :

أن الغالب من إطلاق هذه الكلمة على ألسنة الناس المقصود بها أن الجوع قد يورد صاحبه إلى ارتكاب المحظورات ، أما أن يكون المقصد من العبارة أن الجوع يقود إلى الكفر أي الخروج من الملة فغير مقصود من إطلاق الكلمة ؛ ألم تقل امرأة ثابت بن قيس حينما جاءت تشتكي لرسول الله صلى الله عليه وسلم بغضها لزوجها قالت : " ما أعيب عليه في خلق ولا دين ولكني أكره الكفر في الإسلام " متفق عليه

وتقصد أن بغضها لزوجها الشديد قد يدفعها إلى كفران العشير وذلك بعدم تأدية حقوقه المشروعة عليها ، فلم يعترض رسول الله صلى الله عليه وسلم على إطلاقها الكفر على التقصير في حقوق الزوج ، وفي هذا دليل على أن المقصود بكلمة الكفر في إطلاق لسان العرب هي الستر والتغطية في كل شيء ، وفي مسألتنا أن الجوع يستر العقل ويغطيه عن التفكير السوي وقد يدفع صاحبه إلى ارتكاب المخالفات الشرعية .

وعليه فلا إثم في قول هذه العبارة ( الجوع كافر ) ، وإن كان التنزه عنها أولى حتى لا تكون ذريعة لتبرير ارتكاب المعاصي ..

والله تعالى أعلى وأعلم.